الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز (نسخة منقحة)
.تفسير الآيات (158- 160): {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ (158) إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ (159) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (160)}{الصفا والمروة}: جبيلان بمكة، و{الصفا} جمع صفاة، وقيل: هو اسم مفرد جمعه صفى وأصفاء، وهي الصخرة العظيمة، قال الراجز: [الرجز]وقيل: من شروط الصفا البياض والصلابة، و{المروة} واحدة المرو، وهي الحجارة الصغار التي فيها لين، ومنه قول الذي أصاب شاته الموت من الصحابة فذكيتها بمروة، ومنه قيل الأمين: اخرجني إلى أخي فإن قتلني فمروة كسرت مروة، وصمصامة قطعت صمصامة، وقد قيل في المرو: إنها الصلاب. قال الشاعر: [الوافر] والصحيح أن المرو الحجارة صليبها ورخوها الذي يتشظى وترق حاشيته، وفي هذا يقال المرو أكثر، وقد يقال في الصليب، وتأمل قول أبي ذؤيب: [الكامل] وجبيل {الصفا} بمكة صليب، وجبيل {المروة} إلى اللين ماهق، فبذلك سميا، قال قوم: ذكر {الصفا} لأن آدم وقف عليه، ووقفت حواء على المروة فانثت لذلك.وقال الشعبي: كان على الصفا صنم يدعى إسافاً، وعلى المروة صنم يدعى نائلة، فاطرَد ذلك في التذكير والتأنيث وقدم المذكر، و{من شعائر الله} معناه من معالمه ومواضع عبادته، وهي جمع شعيرة أو شعارة، وقال مجاهد: ذلك راجع إلى القول، أي مما أشعركم الله بفضله، مأخوذ من تشعرت إذا تحسست، وشعرت مأخوذ من الشعار وهو ما يلي الجسد من الثياب، والشعار مأخوذ من الشعر، ومن هذه اللفظة هو الشاعر: و{حج} معناه قصد وتكرر، ومنه قول الشاعر: [الطويل] ومنه قول الآخر: [البسيط] و{اعتمر} زار وتكرر مأخوذ من عمرت الموضع، وال {جناح} الإثم الميل عن الحق والطاعة، ومن اللفظة الجناح لأنه في شق، ومنه قيل للخبا جناح لتمايله وكونه كذي أجنحة، ومنه: {وإن جنحوا للسلم فاجنح لها} [الأنفال: 61]، و{يطوف} أصله يتطوف سكنت التاء وأدغمت في الطاء.وقرأ أبو السمال أن يطاف وأصله يطتوف تحركت الواو وانفتح ما قبلها فانقلبت ألفاً فجاء يطتاف أدغمت التاء بعد الإسكان في الطاء على مذهب من أجاز إدغام الثاني في الأول، كما جاء في مدكر، ومن لم يجز ذلك قال قلبت طاء ثم أدغمت الطاء في الطاء، وفي هذا نظر لأن الأصلي أدغم في الزائد وذلك ضعيف.وروي عن ابن عباس وأنس بن مالك وشهر بن حوشب أنهم قرؤوا أن لا يتطوف وكذلك في مصحف عبد الله بن مسعود وأبي بن كعب أن لا يطوف، قيل: أن لا يطوف بضم الطاء وسكون الواو.وقوله تعالى: {إن الصفا والمروة من شعائر الله} خبر يقتضي الأمر بما عهد من الطواف بهما.وقوله: {فلا جناح} ليس المقصد منه إباحة الطواف لمن شاء، لأن ذلك بعد الأمر لا يستقيم، وإنما المقصد منه رفع ما وقع في نفوس قوم من العرب من أن الطواف بينهما فيه حرج، وإعلامهم أن ما وقع في نفوسهم غير صواب، واختلف في كيفية ذلك فروي أن الجن كانت تعرف وتطوف بينهما في الجاهلية فكانت طائفة من تهامة لا تطوف بينهما في الجاهلية لذلك، فلما جاء الإسلام تحرجوا من الطواف.وروي عن عائشة رضي الله عنها أن ذلك في الأنصار وذلك أنهم كانوا يهلون لمناة التي كانت بالمشلل حذو قديد ويعظمونها فكانوا لا يطوفون بين إساف ونائلة إجلالاً لتلك، فلما جاء الإسلام تحرجوا فنزلت هذه الآية، وروي عن الشعبي أن العرب التي كانت تطوف هنالك كانت تعتقد ذلك السعي إجلالاً لإساف ونائلة، وكان الساعي يتمسح بإساف فإذا بلغ المروة تمسح بنائلة وكذلك حتى تتم أشواطه، فلما جاء الإسلام كرهوا السعي هنالك إذ كان بسبب الصنمين.واختلف العلماء في السعي بين الصفا والمروة فمذهب مالك والشافعي أن ذلك فرض ركن من أركان الحج لا يجزي تاركه أو ناسيه إلا العودة، ومذهب الثوري وأصحاب الرأي أن الدم يجزيء تاركه وإن عاد فحسن، فهو عندهم ندب، وروي عن أبي حنيفة: إن ترك أكثر من ثلاثة أشواط فعليه دم، وإن ترك ثلاثة فأقل فعليه لكل شوط إطعام مسكين، وقال عطاء ليس على تاركه شيء لا دم ولا غيره، واحتج عطاء بما في مصحف ابن مسعود أن لا يطوف بهما وهي قراءة خالفت مصاحف الإسلام، وقد أنكرتها عائشة رضي الله عنها في قولها لعروة حين قال لها أرأيت قول الله: {فلا جناح أن يطوف بهما}؟ فما نرى على أحد شيئاً ألا يطوف بهما قالت: يا عروة كلا لو كان ذلك لقال: فلا جناح عليه ألا يطوف بها.قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه: وأيضاً فإن ما في مصحف ابن مسعود يرجع إلى معنى أن يطوف وتكون {لا} زائدة صلة في الكلام، كقوله: {ما منعك ألا تسجد} [الأعراف: 12]، وكقول الشاعر: [البسيط] أي وعمر وكقول الآخر: [الرجز] ومذهب مالك وأصحابه في العمرة أنها سنة إلا ابن حبيب فإنه قال بوجوبها، وقرأ قوم من السبعة وغيرهم {ومن يطوع} بالياء من تحت على الاستقبال والشرط، والجواب في قوله: {فإن}، وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وعاصم {تطوع} على بابه في المضي، ف {من} على هذه القراءة بمعنى الذي، ودخلت الفاء في قوله: {فإن} للإبهام الذي في {من}، حكاه مكي، وقال أبو علي: يحتمل {تطوع} أن يكون في موضع جزم و{من} شرطية، ويحتمل أن تكون {من} بمعنى الذي والفعل صلة لا موضع له من الإعراب، والفاء مؤذنة أن الثاني وجب لوجوب الأول، ومن قال بوجوب السعي قال: معنى {تطوع} أي زاد براً بعد الواجب، فجعله عاماً في الأعمال، وقال بعضهم: معناه من تطوع بحج أو عمرة بعد حجة الفريضة، ومن لم يوجب السعي قال: المعنى من تطوع بالسعي بينهما، وفي قراءة ابن مسعود {فمن تطوع بخير} ومعنى {شاكر} أي يبذل الثواب والجزاء، {عليم} بالنيات والأعمال لا يضيع معه لعامل بر ولا غيره عمل.وقوله تعالى {إن الذين يكتمون} الآية، المراد بالذين أحبار اليهود ورهبان النصارى الذين كتموا أمر محمد صلى الله عليه وسلم، قال الطبري: وقد روي أن معينين منهم سألهم قوم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم عما في كتبهم من أمره فكتموا فنزلت، وتتناول الآية بعد كل من كتم علماً من دين الله يحتاج إلى بثه، وذلك مفسر في قول النبي صلى الله عليه وسلم: «من سئل عن علم فكتمه ألجم يوم القيامة بلجام من نار»، وهذا إذا كان لا يخاف ولا ضرر عليه في بثه.وهذه الآية أراد أبو هريرة رضي الله عنه في قوله لولا آية في كتاب الله ما حدثتكم حديثاً. وقد ترك أبو هريرة ذلك حين خاف فقال حفظت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعاءين: أما أحدهما فبثثته وأما الآخر فلو بثثته قطع هذا البلعوم.وهذه الآية أراد عثمان رضي الله عنه في قوله: لأحدثنكم حديثاً لولا آية في كتاب الله ما حدثتكموه، ومن روى في كلام عثمان لولا أنه في كتاب الله فالمعنى غير هذا.و{البينات والهدى}: أمر محمد صلى الله عليه وسلم، ثم يعم بعد كل ما يكتم من خير، وقرأ طلحة بن صرف من بعد ما بينه على الإفراد، و{في الكتاب} يراد به التوراة والإنجيل بحكم سبب الآية وأنها في أمر محمد صلى الله عليه وسلم ثم يدخل القرآن مع تعميم الآية، وقد تقدم معنى اللعنة.واختلف في اللاعنين فقال قتادة والربيع: الملائكة والمؤمنون، وهذا ظاهر واضح جار على مقتضى الكلام، وقال مجاهد وعكرمة: هم الحشرات والبهائم يصيبهم الجدب بذنوب علماء السوء الكاتمين فيلعنونهم.قال القاضي أبو محمد: وذكروا بالواو والنون كمن يعقل لأنهم أسند إليهم فعل من يعقل، كما قال: {رأيتهم لي ساجدين} [يوسف: 4]، وقال البراء بن عازب {اللاعنون} كل المخلوقات ما عدا الثقلين الجن والإنس، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الكافر إذا ضرب في قبره فصاح سمعه الكل إلا الثقلين فلعنه كل سامع»، وقال ابن مسعود: المراد بها ما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن كل متلاعنين إن استحقا اللعنة وإلا انصرفت على اليهود».قال القاضي أبو محمد: وهذه الأقوال الثلاثة لا يقتضيها اللفظ ولا تثبت إلا بسند يقطع العذر، ثم استثنى الله تعالى التائبين وقد تقدم معنى التوبة، و{أصلحوا} أي في أعمالهم وأقوالهم، و{بينوا} قال من فسر الآية على العموم: معناه بينوا توبتهم بمبرز العمل والبروع فيه، ومن فسرها على أنها في كاتمي أمر محمد قال: المعنى بينوا أمر محمد صلى الله عليه وسلم فتجيء الآية فيمن أسلم من اليهود والنصارى، وقد تقدم معنى توبة الله على عبده وأنها رجوعه به عن المعصية إلى الطاعة. .تفسير الآيات (161- 164): {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (161) خَالِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (162) وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ (163) إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (164)}قوله تعالى: {إن الذين كفروا} الاية، محكمة في الذين وافوا على كفرهم، واختلف في معنى قوله: {والناس أجمعين} وهم لا يلعنون أنفسهم، فقال قتادة والربيع: المراد {بالناس} المؤمنون خاصة، وقال أبو العالية: معنى ذلك في الآخرة، وذلك أن ذلك أن الكفرة يلعنون أنفسهم يوم القيامة، وقالت فرقة: معنى ذلك أن الكفرة يقولون في الدنيا: لعن الله الكافرين، فيلعنون أنفسهم من حيث لا يشعرون، وقرأ الحسن بن أبي الحسن: {والملائكة والناس أجمعون} بالرفع على تقدير أولئك يلعنهم الله، واللعنة في هذه الآية تقتضي العذاب، فلذلك قال: {خالدين فيها}، والضمير عائد على اللعنة، وقيل على النار وإن كان لم يجر لها ذكر، لثبوتها في المعنى.ثم أعلم تعالى برفع وجوه الرفق عنهم لأن العذاب إذا لم يخفف ولم يؤخر فهو النهاية، و{ينظرون} معناه يؤخرون عن العذاب، ويحتمل أن يكون من النظر، نحو قوله تعالى {ولا ينظر إليهم يوم القيامة} [آل عمران: 77]، والأول أظهر، لأن النظر بالعين إنما يعدى بإلى إلا شاذاً في الشعر.وقوله تعالى: {وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو} الآية، إعلام بالوحدانية، و{واحد} في صفة الله تعالى معناه نفي المثيل والنظير والند، وقال أبو المعالي: هو نفي التبعيض والانقسام، وقال عطاء: لما نزلت هذه الآية بالمدينة قال كفار قريش بمكة: ما الدليل على هذا؟ وما آيته وعلامته؟ وقال سعيد بن المسيب: قالوا: إن كان هذا يا محمد فائتنا بآية من عنده تكون علامة الصدق، حتى قالوا: اجعل لنا الصفا ذهباً، فقيل لهم: ذلك لكم، ولكن إن كفرتم بعد ذلك عذبتم، فأشفق رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: دعني أدعهم يوماً بيوم، فنزل عند ذلك قوله تعالى: {إن في خلق السموات والأرض}، الآية، ومعنى {في خلق السموات} في اختراعها وإنشائها، وقيل: المعنى أن في خلقه أي هيئة السموات والأرض، و{اختلاف الليل والنهار} معناه أن هذا يخلف هذا وهذا يخلف هذا فهما خلفة، كما قال تعالى: {وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة} [الفرقان: 62]، وكما قال زهير: [الطويل]وقال الآخر: [المديد] ويحتمل أيضاً الاختلاف في هذه الآية أن يراد به اختلاف الأوصاف، و{الليل} جمع ليلة وتجمع ليالي، وزيدت فيها الياء كما زيدت في كراهية وفراهية، و{النهار} يجمع نهراً وأنهرة، وهو من طلوع الفجر إلى غروب الشمس، يقضي بذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم لعدي بن حاتم «إنما هو بياض النهار وسواد الليل».، وهذا هو مقتضى الفقه في الإيمان ونحوها، فأما على ظاهر اللغة وأخذه من السعة فهو من وقت الإسفار إذا اتسع وقت النهار كما قال: [الطويل] وقال الزجاج في كتاب الأنواء: أول النهار ذرور الشمس قال: وزعم النضر بن شميل أن أول النهار ابتداء طلوع الشمس ولا يعد ما قبل ذلك من النهار.قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه: وقول النبي صلى الله عليه وسلم هو الحكم، و{الفلك} السفن، وإفراده وجمعه بلفظ واحد، وليست الحركات تلك بأعيانها، بل كأنه بنى الجمع بناء آخر، يدل على ذلك توسط التثنية في قولهم فلكان، والفلك المفرد مذكر، قال الله تعالى: {في الفلك المشحون} [الشعراء: 119].و{ما ينفع الناس} هي التجارات وسائر المآرب التي يركب لها البحر من غزو وحج، والنعمة بالفلك هي إذا انتفع بها، فلذلك خص ذكر الانتفاع إذ قد تجري بما يضر، و{ما أنزل الله من السماء من ماء} يعني به الأمطار التي بها إنعاش العالم وإخراج النبات والأرزاق، و{بث} معناه فرق وبسط، و{دابة} تجمع الحيوان كله، وقد أخرج بعض الناس الطير من الدواب، وهذا مردود، وقال الأعشى: [الطويل]: وقال علقمة بن عبدة: [الطويل] و{تصريف الرياح} إرسالها عقيماً ومقحة وصراً ونصراً وهلاكاً، ومنه إرسالها جنوباً وشمالاً وغير ذلك، و{الرياح} جمع ريح، وجاءت في القرآن مجموعة مع الرحمة مفردة مع العذاب، إلا في يونس في قوله تعالى {وجرين بهم بريح طيبة} [يونس: 22]، وهذا أغلب وقوعها في الكلام، وفي الحديث: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا هبت الريح يقول: «اللهم اجعلها رياحاً ولاتجعلها ريحاً».قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه: وذلك لأن ريح العذاب شديد ملتئمة الأجزاء كأنها جسم واحد، وريح الرحمة لينة متقطعة فلذلك هي رياح وهو معنى {نشراً}، وأفردت مع الفلك لأن ريح إجراء السفن إنما هي واحدة متصلة، ثم وصفت بالطيب فزال الاشتراك بينهما وبين ريح العذاب، وهي لفظة من ذوات الواو، يقال ريح وأرواح، ولايقال أرياح، وإنما قيل رياح من جهة الكسرة وطلب تناسب الياء معها، وقد لحن في هذه اللفظة عمارة بن عقيل بن بلال بن جرير، فاستعمل الأرياح في شعره ولحن في ذلك، وقال له أبو حاتم: إن الأرياح لا تجوز، فقال: أما تسمع قولهم رياح؟، فقال أبو حاتم: هذا خلاف ذلك، فقال: صدقت ورجع، وأما القراء السبعة فاختلفوا فقرأ نافع {الرياح} في اثني عشر موضعاً: هنا وفي الأعراف {يرسل الرياح} [الآية: 57]، وفي إبراهيم: {اشتدت به الرياح} [الآية: 8] وفي الحجر: {الرياح لواقح} [الآية: 22]، وفي الكهف: {تذروه الرياح} [الآية: 45]، وفي الفرقان {أرسل الرياح} [الآية: 22]، وفي النمل {ومن يرسل الرياح} [الآية: 63]، وفي الروم [الآيتان: 46، 48] في موضعين، وفي فاطر [الآية: 9] وفي الجاثية [الآية: 5] وفي حم عسق {يسكن الرياح} [الآية: 33]، وقرأ أبو عمرو وعاصم وابن عامر موضعين من هذه بالإفراد: في إبراهيم وفي حم عسق، وقرؤوا سائرها كقراءة نافع، وقرأ ابن كثير بالجمع في خمسة مواضع: هنا وفي الحجر وفي الكهف وفي الروم الحرف الأول وفي الجاثية {وتصريف الرياح} وباقي ما في القرآن بالإفراد، وقرأ حمزة بالجمع في موضعين: في الفرقان وفي الروم الحرف الأول وأفرد سائر ما في القرآن، وقرأ الكسائي كحمزة وزاد عليه في الحجر {الرياح لواقح} [الآية: 22]، ولم يختلفوا في توحيد ما ليس في ألف ولام، و{السحاب} جمع سحابة، سمي بذلك لأنه ينسحب، كما قالوا حباً لأنه يحبو، قاله أبو علي الفارسي، وتسخيره بعثه من مكان إلى آخر، فهذه آيات أن الصانع موجود. والدليل العقلي يقوم أن الصانع للعالم لا يمكن أن يكون إلا واحداً لجواز اختلاف الاثنين فصاعدا.
|